26‏/6‏/2016

السوسيولوجيا في المغرب من ابن خلدون الى السوسيولوجيا الكولونيالية


تجد السوسيولوجيا، بعد الاستقلال، نفسها أمام كم هائل من الدراسات و المونوغرافيات التي أنتجت خلال الحقبة الاستعمارية من طرف سوسيولوجيين و ضباط للشؤون الأهلية، حركتهم الإدارة الاستعمارية للقيام بتدخل يقوم على معرفة المجتمع المغربي لهذه المرحلة.
 وتجدر الإشارة إلى أن إتباع خط السوسيولوجيا في الحقل المغربي لا يمكن أن يتم بدون الحديث عن ابن خلدون الذي درسه السوسيولوجيون المغاربة للطلبة بعد سنوات الاستقلال بوصفه مؤسس علم الاجتماع. إن صورة ابن خلدون تبدو غير عادية في تاريخ الفكر السوسيولوجي العربي، فإذا كان هذا العلامة قد حقق نوعا من الموضوعية في تحليل دينامية المجتمعات والسلالات الحاكمة، فلا أحد من المفكرين العرب الذين أتوا بعده قد اتبع الطريق إلذي سار فيه ابن خلدون، ذلك أن هؤلاء انخرطوا في استمرارية القراءة المعيارية والدينية للمجتمع. لماذا يعتبر ابن خلدون بدون وريث  في الفكر العربي؟ إن سؤالا كهذا يتجاوز إطار  هذه المساهمة.
إن التفكير في السوسيولوجيا و تطور موضوعاتها يؤدي إلى اكتشاف هذه "النشأة غير الشرعية "التي تمت خلال الحقبة الاستعمارية. إن السوسيولوجيا بهذا المعنى كانت مرتبطة بتوظيف العلم لمصلحة الانتشار الاستعماري  الذي لم يكن بإمكانه أن يستغني عن معرفة المستعمر. أن نعود إلى هذا، هو أن نعود إلى تطبيق إيديولوجي في صورته الأكثر اكتمالا. لقد شكلت المنشورات المنتظمة مثل "الأرشيفات البربرية" و"هيسبريس تمودة" و"الأرشيفات المغربية"، و هذا هو الحال نفسه في كل الأدب السوسويولوجي الوفير المؤطر، في الآن ذاته من طرف السوسيولوجيين الفرنسيين وضباط الشؤون الأهلية، ميراثا  ضخما و ضروريا لمعرفة المجتمع المغربي لهذه المرحلة.
إن تطبيق السوسيولوجيا يتولد من مشروع للمجتمع، يتعلق الأمر بمشروع كولونيالي حيث يسخر العلم من أجل توفير تأطير علمي. ومن غير المجدي التفكير في أطروحة روبير مونطاني حول "البربر والمخزن" التي تمثل الدرجة القصوى للنظرية الكولونيالية. ومع ذلك فإن إثبات الطابع الايديولوجي والاستعماري للسوسيولوجيا الكولونيالية يعتبر بمثابة تحصيل حاصل. وفي الحقيقة، مع ذلك، فإن هذا الأمر لا ينزع عنها البتة  الاستحقاق بأن تكون معرفة إمبريقية، منظمة وتقوم على التنقيب. غير أن معالجة هذه المعرفة وموضوعاتها مشروع يتجاوز إطار هذا المقال. لكن لنشر، مع ذلك، بأن هناك سوسيولوجيا ناشئة بعد استقلال المغرب في 1956 شرعت في اتخاذ موقعها في ارتباط بهذا الإرث.

ثانيا :الالتزام  وتصفية الاستعمار  
إن نشأة السوسيولوجيا في المغرب المستقل  ارتبطت بقوة  باسم بول باسكون (1932-1985، وهو كان قد حصل على الجنسية المغربية في يناير 1964) وقد أسس مع زملاء له ينتمون إلى فروع مختلفة أول بنية "للبحث". إن ممارسة السوسيولوجيا كانت في ذلك الحين تتصور كفعل نضالي يتعين عليه أن يأخذ بعين الاعتبار دور الدولة. وبالنظر إلى أن الدولة كانت تدرك بوصفها الفاعل المركزي للتغيير والتنمية فقد كان الباحثون الأوائل ،في معظمهم من اليسار،على هذا النحو مجبرين على مسايرة ،دعم وتوجيه الفعل السياسي،مدافعين عن التزامهم السياسي واستقلال تفكيرهم وعن مصلحة الجماهير الشعبية.ومعظم الدراسات ذات الطابع السوسيولوجي ،المنجزة من طرف بول باسكون وزملائه ،كانت قد تحققت في إطار السياسة العمومية (السياسة الزراعية والسياسة المائية). وإذا كانت مساهمة بول باسكون في علم الاجتماع القروي من بين الأكثر أهمية، بالنظر إلى إنتاجها الشاهد على دقتها العلمية، فإن سوسيولوجيين آخرين تابعين إلى مؤسسات جامعية أخرى قد انخرطوا في سوسيولوجيا الالتزام هذه، مثل عبد الكبير الخطيبي ومحمد جسوس.
إن السوسيولوجيا المطبقة في سنوات 1960 و1970 أرادت لنفسها أن تكون نقدية في الحقل النظري والسياسي. ومن ثم فإن تصفية الجهاز المفهومي الاستعماري كانت تقريبا شعارا ونوعا من الحيطة الذي  يجب على كل باحث تقدمي أن يجهر به  ومن المرجح أن يطبقه. وحسب الخطيبي فإن "تصفية السوسيولوجيا الاستعمارية تفترض نوعا من  عدم التبعية العلمية للمتروبول، وتتطلب ممارسة علمية نقدية مبنية على التحليل المقارن للبلدان الخاضعة للتحليل أو بالأحرى التي تم تحليلها بشكل سيء. هكذا ترتكز المهمة الجوهرية للسوسيولوجيين على القيام بعمل نقدي مزدوج: تصفية المفاهيم الاثنومركزية للسوسيولوجيين الذين تكلموا عن مكانة المغاربة، وإنجاز نقد للمعرفة وللخطابات التي بلورها المجتمع المغربي (أو العربي ) حول ذاته. كتب الخطيبي في مقال بعنوان "تصفية الاستعمار والسوسيولوجيا ": "من وجهة نظر ما نسميه أيضا بالعالم الثالث، فإننا لا نستطيع أن نزعم بأن تصفية الاستعمار استطاعت أن تعزز فكرا نقديا بصفة جذرية حيال الآلة الايديولوجية للإمبريالية وللنزعة الاثنومركزية، وتصفية الاستعمار هذه ستكون في الوقت نفسه تفكيكا (يستعير الخطيبي هذا المفهوم من جاك دريدا ) للخطابات التي تشارك بطرق متنوعة  وأقل أو أكثر خفاء في الهيمنة الامبريالية.
بالنسبة للجيل الأول من السوسيولوجيين المغاربة فإن البحث والالتزام السياسي يجب أن يسيرا جنبا إلى جنب. في هذه المرحلة كان الالتزام بمشروع محدد وواضح للمجتمع  تقريبا يعتبر أمرا بديهيا. وقد كان يعبر عن ذلك بما سماه بول باسكون (1983) ب"سوسيولوجيا الفعل". وهذا المفهوم هو الأكثر قربا من السوسيولوجيا المطبقة الملتزمة.
في نص برنامجي "لماذا السوسيولوجيا ؟" يطرح باسكون المبادئ الكبرى لنشاطه العلمي. وبالنسبة إليه يجب أن تكون المعرفة موضوعة من أجل تحويل العالم ، كما أن السوسيولوجيا المحايدة سياسيا غير فعالة. إن الدفاع عن الفلاحين والجماهير المستغلة (بفتح الغين) يجب أن ينشط حركية السوسيولوجيا ("يتعين على القرويين أن يظهروا في صف التعبير السياسي، نحن نحب أن يطرح القرويون الأسئلة...") إطار هذه السوسيولوجيا المناضلة يتمثل في كون تعليم السوسيولوجيا كان يعتبر كفعل نضالي في حد ذاته. وتنعكس هذه النزعة في محاضرات وأعمال محمد جسوس الذي حرك باعتباره مناضلا سياسيا معرفته السوسيولوجية، والعكس بالعكس. متدخلا في النقاشات السياسية، حول مسائل مرتبطة بالديموقراطية، بالتعليم، والتنمية... إلخ، فقد كان لديه هاجس تحديد ما يجده غامضا ومبهما، بطريقة بيداغوجية. ومن الشائع أن نجد في الحوارات التي أجريت معه عروضا نقدية بالرغم من أنها موجزة ومبسطة، حول نظريات ومفاهيم التغير، الحداثة، الخصوصية، الثقافة والايديولوجيا .وفضلا عن ذلك، فمعظم هذه الحوارات منشور بمجلات أكاديمية، تحت إشراف أساتذة باحثين. كما أن لديه أيضا نصوصا أخرى ذات طابع أكاديمي منشورة باللغة العربية. من ذلك مثلا إحدى المحاضرات حول العقلانية ،الحداثة ورهانات الدرس السوسيولوجي بالمغرب، وهو نص حول القيادات والتراتبات الاجتماعية.
إذن، كانت الانتاجات السوسيولوجية الأولى في فترة الاستقلال تخضع لما سماه كارل بوبر ب"الابستمولوجيا المتفائلة " التي تعبر عنها جزئيا فكرة تصفية المفاهيم الكولونيالية والعلوم الغربية. وهذا تقليد فكري يرجع، على الأقل إلى فرانسيس بيكون. وهو يستند إلى القول بأن الحقيقة تظهر نفسها بنفسها بمجرد ما أن يتخلص الملاحظ من الأحكام المسبقة والمفاهيم القبلية ومن الاديولوجيات...إلخ. ويعتقد البعض  بأن الباحثين الذين لهم مقاصد سيئة لا يمكنهم أن ينتجوا سوى معطيات خاطئة. ويقبل البعض الآخر، على عكس ذلك، اعتبار البحوث المبنية على أطروحات خاطئة قابلة أن تقود إلى وقائع حقيقية، وإذن، قابلة للاستعمال.
بهذا المعنى يمكن التفكير في أن الانتاج الكولونيالي سيكون نافعا شريطة الفصل بين الوقائع الامبريقية والنظريات الكولونيالية التي تزيف تلك الوقائع وتمنحها دلالات خاطئة. هكذا تكفي تصفية المفاهيم المستعملة من طرف الباحثين الكولونياليين لإيجاد وقائع خالصة من كل إديولوجيا استعمارية.
وقد أيد بول باسكون (1983) الفكرة القائلة بأن البحث لا ينفع في أي شيء إذا  لم يكشف عن أي شيء. وقد كانت السوسيولوجيا خاضعة لمنطق الكشف عن كل ما هو خفي ومعقد، وإصلاح واقع اجتماعي مشوه أو تعرض للتفقير، وتحويل المجتمع وفي هذا الاطار الإيديولوجي ظهرت أهمية الدراسة الميدانية.  هذه الأخيرة ستكون في البداية مندفعة بصفة اقل نحو متطلبات الملاحظة المباشرة، وبشكل أكثر إلى التواصل مع الجماهير والطبقات غير المحظوظة (العمال،الفلاحين ،النساء القرويات ،الشباب القروي ...). لكن، لا يمكننا أن نختزل الاهتمام المبدئي بالميدان، فقط، إلى الدوافع الايديولوجية وحدها وفضلا عن ذلك ،فقد كان بول باسكون "مسكونا" بشغف التفصيل، بالإعداد الدقيق لدراساته التي جعلت من الميدان لا يختزل في مجرد الزيارات الودية لمناضل، ولا في مهام فورية لأحد الخبراء، وسيكون الفضل في هذا راجعا إلى تكوينه في العلوم الطبيعية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق