منذ نشأته، ركّز علم الاجتماع على دراسة الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالجنوح والانحراف، خصوصًا بين فئات مثل الأحداث، والعاطلين عن العمل، وأبناء الأسر الهشّة. فقد اهتم الباحثون بتحليل الأسباب التي تؤدي إلى انتشار السلوك المنحرف داخل هذه الشرائح، مثل الفقر، والتفكك الأسري، وضعف الفرص الاقتصادية. ومع ذلك، فإن دراسة الانحرافات لا تقتصر فقط على الطبقات الدنيا، بل يمكن أن تمتد – وإن بشكل أقل تناولًا – إلى مستويات اجتماعية أعلى.
الانحراف الاجتماعي بين الفئات المختلفة
عادة ما يتم التركيز في الدراسات السوسيولوجية على الفئات الهشة لسهولة الوصول إلى المعطيات والمعلومات الخاصة بها. لكن الانحراف الاجتماعي لا يقتصر على طبقة اجتماعية معينة؛ فهو قد يوجد أيضًا في مستويات عليا من المجتمع. إلا أن الباحثين يواجهون صعوبات في دراسة هذه الفئات، نظرًا لطبيعة مواقعها الحساسة، وصعوبة الحصول على بيانات دقيقة عنها.
دور الإعلام والاتصال في كشف الظواهر المخفية
في العصر الحديث، لعبت وسائل الإعلام، وخاصة ما يُعرف بـ"السلطة الرابعة"، دورًا كبيرًا في تسليط الضوء على قضايا اجتماعية لم يكن من السهل الوصول إليها سابقًا. فقد مكّن التطور التكنولوجي وانتشار وسائل الاتصال الحديثة من كشف العديد من الممارسات التي كانت تجري في الخفاء.
كما ساعدت المنصات الرقمية على تعزيز الشفافية والمساءلة، بحيث بات من الصعب إخفاء التجاوزات لفترات طويلة، وأصبح العالم أكثر انفتاحًا وتبادلًا للمعلومات.
نحو حقل جديد في علم الاجتماع
انطلاقًا من هذه التحولات، يرى بعض الباحثين أن هناك حاجة لإرساء مجال جديد ضمن علم الاجتماع يُعنى بدراسة الانتهاكات والتجاوزات في البنية الاجتماعية، ليس فقط عند الفئات المهمشة، بل أيضًا في المستويات العليا. هذا التوجه يمكن أن يُسهم في سد فجوة مهمة في الدراسات الاجتماعية، ويمنح المجتمع أدوات لفهم أكثر شمولية للظواهر.
الضوابط والشفافية كشرط أساسي
لا يمكن أن يتحقق هذا التوجه الجديد إلا في إطار من الشفافية والموضوعية، بعيدًا عن التعميم أو إصدار الأحكام. المطلوب هو أبحاث علمية منهجية تعتمد على بيانات موثوقة، وأدوات تحليل رصينة، مع احترام القوانين والأعراف الأكاديمية. بذلك، يتحقق التوازن بين حق المجتمع في المعرفة وضرورة حماية الخصوصية الفردية والمؤسساتية.
إن تطور وسائل الاتصال والتكنولوجيا الرقمية أتاح فرصًا غير مسبوقة لدراسة الظواهر الاجتماعية من زوايا جديدة. وإذا كان علم الاجتماع قد ركّز تاريخيًا على دراسة انحراف الفئات الهشة، فإن التوسع نحو دراسة التجاوزات في المستويات العليا يفتح آفاقًا واسعة لفهم ديناميات المجتمع. ومع ذلك، فإن هذا المجال يتطلب التزامًا صارمًا بالموضوعية والمنهجية العلمية، حتى يبقى علم الاجتماع أداة للكشف عن الحقائق وتحليلها بعيدًا عن التحيز أو الإثارة الإعلامية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق