بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تحول مركز ثقل الفكر الاجتماعي من أوروبا إلى الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، برزت "مدرسة شيكاغو" كأول مدرسة فكرية أمريكية مؤثرة في علم الاجتماع. لم يكن اهتمامها نظريًا بحتًا، بل كان عمليًا بشكل كبير، حيث سعت إلى فهم التحولات الجذرية التي كانت تحدث في المدن الأمريكية، وخاصة مدينة شيكاغو نفسها، التي كانت تشهد نموًا هائلاً نتيجة الهجرة الداخلية والخارجية. ركزت هذه المدرسة على دراسة المجتمع ككيان حي يتفاعل ويتغير باستمرار.
شيكاغو: مختبر اجتماعي طبيعي
كانت مدينة شيكاغو في ذلك الوقت مسرحًا مثاليًا للدراسة. فقد كانت تتوسع بسرعة كبيرة، وتجذب موجات من المهاجرين من أوروبا ومناطق أخرى، مما أدى إلى تنوع ثقافي واجتماعي كبير، وظهور مشكلات حضرية معقدة مثل الجريمة، الفقر، والتشرد. رأى علماء مدرسة شيكاغو أن المدينة ليست مجرد مكان، بل هي بيئة اجتماعية تؤثر على سلوك الأفراد وتكوين شخصياتهم.
المنهج الإيكولوجي البشري
تأثرت مدرسة شيكاغو بشكل كبير بالمنهج البيولوجي للإيكولوجيا (Ecology)، الذي يدرس تفاعل الكائنات الحية مع بيئاتها. قام علماء الاجتماع في شيكاغو بتطبيق هذا المنهج على دراسة المجتمعات البشرية، وسموه "الإيكولوجيا البشرية".
المناطق المتمركزة (Concentric Zones): طور عالما الاجتماع روبرت بارك وإرنست بورجس نموذجًا للمدينة على شكل دوائر متحدة المركز، حيث تختلف كل دائرة عن الأخرى في خصائصها الاجتماعية والاقتصادية. تبدأ من المنطقة المركزية للأعمال التجارية، وتمر بمنطقة انتقالية يسكنها المهاجرون والفقراء، ثم تليها مناطق سكنية ذات مستويات مختلفة، وصولًا إلى ضواحي المدينة.
العمليات الاجتماعية: حللوا كيف أن العمليات البيولوجية مثل التنافس، التعايش، والاستيعاب الثقافي (Assimilation) تحدث أيضًا في المجتمعات البشرية. على سبيل المثال، التنافس على الموارد يؤدي إلى فصل المجموعات الاجتماعية المختلفة في مناطق محددة، بينما يؤدي الاستيعاب إلى اندماجها تدريجيًا.
دراسات رائدة ومنهجيات جديدة
قدمت مدرسة شيكاغو إسهامات منهجية مهمة للغاية، فقد كانت من أوائل من استخدموا المنهج النوعي (Qualitative) في علم الاجتماع.
الدراسة الميدانية (Fieldwork): بدلاً من الاعتماد على الإحصائيات فقط، قام علماء مدرسة شيكاغو بالنزول إلى الميدان والتفاعل المباشر مع أفراد المجتمع، وإجراء المقابلات، وجمع الملاحظات. كان الهدف هو فهم الحياة اليومية من وجهة نظر الأفراد الذين يعيشون هذه التجارب.
قصص الحياة (Life Histories): استخدموا أسلوب "قصص الحياة" لتوثيق تجارب المهاجرين، والعمال، والمجرمين، مما قدم نظرة عميقة وشخصية حول كيفية تأثير البيئة الحضرية على الأفراد.
أمثلة على الدراسات الرائدة:
الهجرة: درس علماء مثل دبليو. آي. توماس وفلوريان زنانيكي التكيف الاجتماعي للمهاجرين البولنديين في أمريكا، وكيف تغيرت هوياتهم وعاداتهم في البيئة الجديدة.
الجريمة: حلل كليفورد شو وهنري مكاي معدلات الجريمة بين الشباب، ووجدوا أنها تتركز في المناطق الانتقالية، مما يؤكد على أن الجريمة هي ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالبيئة أكثر من كونها سمة فردية.
التشرد والتهميش: قدمت دراسات نلس أندرسون عن "الرجل المتشرد" وصفًا دقيقًا لحياة المشردين وعلاقاتهم الاجتماعية، مما كشف عن أنهم ليسوا مجرد أفراد فاشلين، بل هم جزء من نظام اجتماعي محدد.
إرث مدرسة شيكاغو ونقدها
على الرغم من تأثيرها الهائل، لم تسلم مدرسة شيكاغو من النقد.
المغالاة في الإيكولوجيا: اتُهمت المدرسة بالمغالاة في تطبيق المنهج الإيكولوجي على المجتمعات البشرية، وتجاهل عوامل أخرى مهمة مثل السلطة والسياسة التي تشكل أيضًا البيئة الحضرية.
التركيز على القضايا المحلية: يرى بعض النقاد أن المدرسة ركزت بشكل مفرط على دراسة القضايا المحلية في شيكاغو، مما حد من قدرتها على تقديم نظريات عالمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق