من الناحية البنيوية لمصطلح علم
الاجتماع نجده في كل اللغات مركب من
كلمتي علم والاجتماع أو المجتمع .. وهذا
يحيلنا على ان علم الاجتماع، هو علم يدرس
المجتمع. لكن هذا لا يكفي كتعريف، بل لا بد من تفكيك المصطلح وتحليله من خلال طرح
أسئلة من قبيل، ما هو العلم؟ زما هو المجتمع؟ ولماذا قورن المجتمع بالعلم؟
كما قلت مصطلح علم الاجتماع، مكون من "
علم " و " الإجتماع "
نتوقف اولا عند " العلم"
إقتران العلم بالمجتمع ليس صدفة، فغالبا ما
يتم استخدام العلم بشكل مختلف في كل مرة، فهو يصعب تحديد تعريف" العلم "
فعند البعض يعني معرفة الحقيقة، وعند آخرين بحث موضوعي لظاهرة تجريبية. وفي
الحقيقة يصعب تعريف العلم ..لكن دفيد ناشماز في كتابه" " يقدم لنا إحاطة
وافية لهذا المفهوم، فهو يرى أن إطلاق مفهوم العلم على أي مجال لابد أن يكون
بمعيار حدده في المنهجية، فهو يذهب الى إستخلاص أن العلم هو " المعرفة التي
يتم إكتشافها بواسطة منهجية علمية" فكل مجال لا يعتمد على منهجية معينة
ودقيقة ومتماسكة للوصوص الى المعرفة، لا يعتبر علما، وربما هنا يكمن السر في
إقتران المجتمع بالعلم، ويمكن أيضا بطريقة ، سبب عدم إعتبار إبن خلدون مؤسس لعلم
الاجتماع. فهو ينقصه المنهج ليكون ضمن قائمة علماء الاجتماع، وبالتالي فإن أي
معرفة لا تعتمد على منهجية محددة لا تعتبر علمية، فالعلم لا ينتمي الى أي منظومة
معرفية بل يرتبط بالمنهج.
ولعلنا هنا نضع الاسباب وراء مرور تسميةه هذا
العلم في الاول ؛ بالفزياء الاجتماعية، مع اوكست كونت فهو كان يفتقد لأي منهج
لدراسة المجتمع لذلك قرر إستخدام منهج
جاهز وتراكم منذ سنين في أروبا، وهو الفزياء، وحاول دراسة المجتمع كظواهر فزيائية،
وهو ما يحسب له لإعتقاده بأن هناك قوانين
ملموسة تحكم هذا المجتمع، و هنا ايضا نجد سببا آخرلإقتران العلم بالمجتمع، فمفهوم
" العلم" او المعرفة القائمة على منهجية معلومة، تقوم على مبدا أساسي
وهو " الفرضية" أي قواعد أو
قوانين ونتائج مسبقة لم يتم التحقق منها؛ وهنا حاول العلماء الممهدون أو المؤسسون
لعلم الاجتماع كما نعرفه اليوم، حالو جعل كل تلك المعارف والقوانين والاسس
التي تراكمت عبر الزمن في المجتمع، وإعتبرها البعض قوانين تابثة ونهائية، جعلوخا مجرد فرضيات يجب اخضاعها
للتجربة والتحقق، مادامت قابلة لذلك.. فاستخدام المدخل العلمي يمكننا من جعل ظاهرة
أي ظاهرة قابلة للقياس، فهناك ركائز علمية أثرت في أغلب العلماء بما فيهم الممهدون
والمؤسسون الاولون للفزياء الاجتماعية.. هذه الركائز ست وهي:
1 إنتظام الطبيعة، فهنا اعتبر العلماء
الممهدون والمؤسسون أن المجتمع، ظاهرة طبيعية يحكمه بلا شك شيء ما يجعله منتظم.
2 كل الظزاهر الطبيعية لها مسببات طبيعية
3 لا يمكننا معرفة الطبيعة
4 لا
شيء يحمل دليلا بذاته، وهذا يفتح الباب أمام نبش المجتمع.. فالقول بأن المجتمع لا
يحكمه أي قانون أو يوجد ليه قانون شيء لا بد من التحق منه لان ليس هناك دليل على
صحته أو بطلانه.
5 المعرفة تأتي من الخبرة ، وهي ان العالم لا
بد أن يكون تجريبيا يعتمد على الإدراك الحسي والخبرة والملاحظة التي تعتبر
مهمة وأساسية في منهج علم الاجتماع.
6
المعرفة أفضل من الجهل ، وهنا نجد سبب
الدعوة الى أن يكون لعلم الاجتماع
وجه تطبيقي.. فأي معرفة لابد أن تسعى الى تحسين ظروف عيش الانسان، فنحن
تَمَكَّنَّا من معرفة أنفسنا بشكل ضيق ، فلا يمكننا التعرف على كل شيء في الطبيعة.
ومن هنا نقول أن هذا الارتباط للمجتمع بالمنهجية التجريبية، جعل العلماء
يتوجهون الى دراسة المجتمع كمحاولة
تفكيكية والنظر اليه بعيدا عن النظرة القديمة والتفسيرات التقليدية ، وتجدر
الاجارة هنا الى أن النزعة التجريبية لم تكن سببا في إقامة " علم
الاجتماع"، فهذه النزعة تقوم على ان فرضية
قدرة الحقل المحض على إنتاج المعرفة، هو أمر خاطئ حسب الابستمولوجيين فكارل
بوبر يقول بهذا الصدد: " يظن بعض
التجريبيون الساذجون أننا نحصل على المعرفة بجمع وترتيب خبراتنا، ومن ثم نرتقي على
سلم العلم، فالاضافة الى الخبرة نحن نحتاج الى الافكار ، واللى الاشكالية
النظرية"
وهنا
نجد السبب في عدم استمرار الفزياء الاجتماعية، فأولا يصعب حصر وتحجيم المجتمع وظواهره تجريبيا،
وثانيا لا بد من التفكير والتمعن في المجتمع
وتحليله نظريا، ولهذا إتجه العلماء الاجتماعيون الى البحث عن منهج لإنتاج المعرفة الاجتماعية.
من كل ما سبق يمكن الاضافة الى التحديد
السابق لعلم الاجتماع " علم يدرس المجتمع" ، نضيف، " علم يدرس
المجتمع وفق منهجية علمية محددة" هذه المنهجية تقوم على عناصر أساسية تشكل
جوهرها وهدفها:
1 التفسير العلمي: أي ضرورة تفسير الظاهرة
الاجتماعية بشكل " علمي " منهجي
واضح. وكمثال فالحكومة السويدية تنفق على أفرادها أكثر من بريطيا، لو طرجنا هذه
الحالة على شخص عادي سيقول " لأن
المواطن السويدي يطالب الحكومة بإنفاق عالي"، أما عالم الاجتماع فيجب أن يبحث
عن الاسباب لتفسيرها منهجيا، وبإستعمال هذا المنهج فيجب أن يكون الجواب:" أن
الانفاق على المواطن البريطاني تراجع بعد فوز المحافظين بإنتخابات في الثمانينيات،
رغم ان البريطانيين طالبوا بإنفاق أعلى". فعالم الاجتماع لابد أن يقدم تفسيرا
لسؤال" لماذا "، بالاعتماد على تحليل منهجي وتجريبي، يستحضر فيها
العوامل السابقة أو الموافقة لذلك السلوك أو الحدث.
وهناك نوعين من التفسير :
التفسير الاستنباطي: وهو يعمد فيه العالم
الاجتماعي الى تقديم تفسيرات يمكن إعتمادها لتفسير نفس الظاهرة أو الحدث أو السلوك
في مكان أخر، لكن هذه التفسيرات يجب أن
تكون مقيدة بأربعة امور:
1 تعميمها بشكل عام وكلي
2 بيان الظروف التي يجب ان تتوافر حتى يكون
التعميم صحيحا: أي أن على عالم الاجتماع أن يقدم معايير تبيين الشروط المناسبة
والتييجب أن تكون موجودة في المكان الذي سنعتمد فيه تفسيره لمعالجة ظاهرة ما.
3
الحادثة المراد تفسيرها
4 قواعد المنطق الصوري، وهي تلك الامور التي
يجب مراعاتها بشكل عام لتعميم التفسيراتلظواهر إجتماعية.. فلو أردنا مثلا تعميم
تلك التفسيرات عن أسباب قلة الانفاق في بريطانيا، في المغرب فإنه يتحتم علينا النظر في مدى توفر شروط
التعميم.
التفسير الاحتمالي: وهي التفسيرات التي
يقدمها كبديل للتفسيرات الاستنباطية، ففي العلوم الاجتماعية، لا تنبني التفسيرات
على قوانين عامة وكلية، لذا فإن العلماء الاجتماعيون يلجؤن الى التفسيرات
الاحتمالية او الاستقرائية، حيث يمكن لهم التحكم في تفسيراتهم وربطها بحيثيات
مختلفة. ...لكن هذه التفسيرات تمحمل قصورا حيث لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كبير،
فالعلم يحتاج الى تفسيرات تنبني عليها
تنبوءات قطعية.
أما العنصر الثاني في المنهجية العلمية فهو:
التنبؤ:
وهو يمثل الهدف من تقديم التفسيرات بنوعيها
الاحتمالي والاستنباطي، لذلك؛ لا بد أن تكون الاسس صحيحة، سواء في دراسة حالة أو
سلوك أو ظاهرة ، وحتى عندما نقوم بإعتماد التفسيرات المختلفة، لدراسة حالة متشابهة
في مكان أخر، فلا بد من الدقة لان التنبوؤ يجب أن يكون صحيحا ويعتمد عليه للإحاطة
بالظاهرة ومستقبلها وتأثيراتها المحتملة والواضحة.
أما العنصر الثالث في هذه المنهجية فهو:
الفهم:
الفهم: بنوعيه التعاطفي والتبئوي، وإذا نظرنا
بتأمل الى جميع الابحاث التي أجريت بإعتماد علم الاجتماع، نجد أن العلماء
الاجتماعيين يعتمدون على الفهم كمبدأ أساسي لدراسة أي ظاهرة ميدانيا، وإذا تعلق الامر بالتأليف
السوسيولوجي، نجدهم يحثون على الزامية الفهم في مجال علم الاجتماع.. وهنا يتبين
لنا الوجه العلمي، لعلم الاجتماع فالفهم سمة بارزة في المنهجية العلمية بشكل عامن
وفي العلوم الاجتماعية بشكل خاص، فالفهم التنبئوي والعاطفي وعلم الاجتماع؛ يأتون
داخل دائرة سببية، فلا ووجود للمعرفة الاجتماعية إلا بتوفر عنصر لافهم بانواعه،
وبالمقابل لا وجود للفهم العاطفي والتنبئوي إلا بعلم الاجتماع، كون الظواهر
الاجتماعية هي من يتم دراستها من الخارج
بالملاحظة وبالمشاركة عن طريق الدخول في ميدان البحث والتفاعل مع عتاصره وجدانيا حتى
يتحقق الالمام الجيد بالظاهرة المدورسة.
الفهم العاطفي ويمثله إتجاه"
فرستن"؛ ويأخذ هذا الاتجاه بأن العلوم الاجتماعية تتميز عن العلوم الطبيعية
في البنية المعرفية بسبب الاختلاف في طبيعة المواضيع في كل منهما، ويفرض الالتزام
بهذا الاتجاه أن يوظف علماء الاجتماع طرائق مختلفة عن الطرائق التي يستخدمها علماء
الطبيعية في البحث العلمي.
فهذا الاتجاه العاطفي، يلزم عالم الاجتماع
بفهم كل من البعد التاريخي للسلوك الانساني والجوانب الذاتية للتجربة الانسانية،
يقول ماكس فيبر " إذا كان على الباحث
ان يفهم سلوك الافراد أو المجموعات، فإنه يتوجب عليه فهم وجهة نظر الاخرين ورموزهم
وقيمهم ومواقفهم حيال أي قضية".
الفهم التنبئوي: يقف هذا النوع بمقابل
الاتجاه العاطفي، ويتبناه العلماء التجربيون المنطقيون فحسب هؤلاء يمكن لعلماء
الاجتماع أن يحصلوا على معرفة موضوعية عند دراسة المجتمع، بإستخدام ذات المنهجية
المستعملة في العلوم التجريبية، فالتجريبيون المناطقة يؤكدون على اهمية الفهم
العاطفي لإكتشاف الحقائق.. كن لإثبات صحة هذه الحقائق لا بد من استخدام
الملاحظة التجريبية، لكي يتم منح هذه
الحقائق صفة العلمية.
ونتوقف ايضا هنا لنعيد مناقشة فكرة؛ ارتباط
العلم بالاجتماع، فأوغست كونت ومن سبقه من الممهدين، كانوا في مرحلة، إنفجار
النزعة التجريبية التي أصبحت إذ ذاك، ملاذا للكثيرين في سبيل الكشف عن الظواهر.
ولذا سعى علماء الاجتماع بدورهم الى إستخدام النزعة التجريبية لدراسة المجتمع، فهم
كانوا يدرسون فقط ظواهر إجتماعية تجريبيا، ولم يدركوا في أي صنف يدخلوا معارفهم،
لهذا سمى اوغست كونت هذا العلم؛ "
الفزياء الاجتماعية" لمنح أبحاثه صفة المنطقية والعلمية، فالحقيقة، في تلك
الفترة كانت تعني حتما، ما ياتي من المنهج التجريبي، وكما في الفزياء فظواهرها، لم
توجد فقط في المرحلة التي بدا الانسان في دراستها علميا، بل إن الظواهر الفزيائية
كانت منذ الازل، لكن الاهتمام بها كان مبكرا لانه لم تكن هناك سلطة على العقل، رغم
أن الساسية والدين، حالوا تقويض هذا العقل، وإبقاء معارفه نتيجة الميتافيزيقيا.
لكن الانسان إستطاع أن يحرر عقله ويبحث عن حقيقة الكون في اشكاله وتجلياته المادية
الملموسة، وكذلك الظاهرة الاجتماعية فهي كانت موجودة قدم الانسان، لكن معرفة
الانسان غت المجتمع لم تتحرر بشهولة من السياسة والدين، وحتى عندما أراد الانسان
الخوض في تحليل المجتمع كان عاجزا عن التعبير عن استنتاجاته ومعارفه عن المجتمع.
لهذا لجأ للحقل التجريبي ؛ لإثبات الحقائق التي يتوصل اليها، وهنا يمكن القول بان
الاتجاه الى النزعة التجريبية، كان اضطراريا وليس اختيارا. بالنسبة لعلماء
الاجتماع مثل أوكست كونت، وهكذا أيضا يُفَسَّرُ اقصاء الكثير من الذين تناولو
المجتمع بالدراسة، لعدم اتباعهم للمنطق العلمي، التجريبي خصوصا. فأغلب هؤلاء
المقصيين تم تصنيف ابحاثم عن المجتمع تحت مظلة الفلسفة الاجتماعية، والتاريخ
الاجتماعي.. وهذا جعلهم لا يحضون بإهتمام الاكاديميين الذين طغت عليهم النزعة التجريبية وجعلهم يقصون
الكثير من الذين دخلوا علم الاجتماع، بعد تبلوره.