11‏/9‏/2025

التفاهة في الإنترنت: قراءة سوسيولوجية




في العقود الأخيرة، أحدثت شبكة الإنترنت تحوّلاً جذرياً في أنماط التواصل الإنساني، بحيث باتت فضاءً مفتوحاً لتبادل المعلومات والأفكار، ولإعادة تشكيل الثقافة والمعرفة. غير أنّ هذا الفضاء الرحب، الذي بشّر في بداياته بعصر جديد من الديمقراطية المعرفية، شهد انزياحاً ملحوظاً نحو ما يمكن تسميته بـ"ثقافة التفاهة".

1. التفاهة كمنتَج اجتماعي

التفاهة في الإنترنت ليست مجرد صدفة أو نتاج سلوك فردي عابر، بل هي ظاهرة اجتماعية لها جذور في البنية الثقافية والاقتصادية للمجتمعات الحديثة. فمع اقتصاد الانتباه (Attention Economy)، أصبحت القيمة لا تُقاس بمدى عمق الفكرة أو قوة الطرح، بل بعدد المشاهدات والتفاعلات. وهنا تتحول التفاهة إلى سلعة مربحة، إذ يجد أصحاب المحتوى أنفسهم مدفوعين نحو إنتاج ما يُثير الفضول السطحي، لا ما يُثري الوعي.

1.1. نظرية "مجتمع المشهد" لغي ديبور

في كتابه الشهير مجتمع المشهد (1967)، يرى ديبور أنّ الحداثة الرأسمالية حولت كل شيء إلى صورة وفرجة. إذا أسقطنا هذا على الإنترنت، نجد أن التفاهة ليست عرضًا جانبيًا بل جزءًا جوهريًا من المنطق الرقمي: كل شيء يجب أن يُستهلك بسرعة، ويُختزل في صورة أو فيديو قصير.

1.2. بورديو ورأس المال الرمزي

بيير بورديو تحدث عن الرأسمال الرمزي والثقافي. لكن في فضاء الإنترنت، يتحول هذا الرأسمال إلى "رأسمال شهرة" يقاس بعدد المتابعين والإعجابات. وهكذا تصبح التفاهة وسيلة فعّالة لتحصيل هذا الرأسمال الجديد، لأن المضمون السطحي غالبًا ما يجذب جمهورًا أوسع من المضمون العميق.

1.3. زيغمونت باومان والحداثة السائلة

باومان وصف المجتمعات المعاصرة بالحداثة السائلة حيث تختفي الثبات والمعاني الكبرى. في هذا السياق، التفاهة ليست انحرافًا، بل تعبيرًا عن منطق عصر يتسم بالسرعة والتقلب والسطحية. الإنترنت يعكس هذه السيولة، فيجعل من كل فكرة مجرد "ترند" عابر.

2. من النخبة إلى الجماهير

كان إنتاج المعرفة في السابق حكراً على النخب المثقفة والمؤسسات الأكاديمية والإعلامية، أما اليوم فقد أتاح الإنترنت للجميع التعبير عن آرائهم. هذا الانفتاح، على الرغم من إيجابياته، أدى إلى تراجع قيمة "المضمون" أمام سيطرة "الفرجة" (Spectacle). لم يعد المطلوب إقناع المتلقي بحجج متماسكة، بل إضحاكه، إثارته، أو جذبه بمشهد صادم. وهكذا تصبح التفاهة أداة لتثبيت حضور رقمي سريع ومؤقت.

3. آليات انتشار التفاهة

3.1. الخوارزميات والاقتصاد الرقمي

  • منصات مثل فيسبوك، يوتيوب، وتيك توك تعتمد خوارزميات تُكافئ ما يثير الانتباه السريع.

  • اقتصاد الانتباه يجعل القيمة مرتبطة بعدد النقرات والمشاهدات، وليس بمستوى العمق أو الجدية.

3.2. الإعلام الجديد والثقافة الشعبية

وفق مدرسة فرانكفورت النقدية (أدورنو وهوركهايمر)، فإن الثقافة في المجتمعات الرأسمالية تُختزل إلى "صناعة ثقافية" هدفها الربح والسيطرة. الإنترنت يمثل استمرارًا لهذا المنطق: التفاهة ليست مجرد صدفة بل استراتيجية تسويقية فعّالة.

3.3. نظريات الإعلام والاتصال

  • مارشال ماكلوهان قال عبارته الشهيرة "الوسيلة هي الرسالة". في عالم الإنترنت، طبيعة الوسيلة (السرعة، الصورة، الفيديو القصير) تجعل الرسالة نفسها سطحية.

  • نظرية "الاستخدامات والإشباعات" تُظهر أن الأفراد يلجؤون للتفاهة لإشباع حاجات الترفيه والهروب من الضغط.

4. الأبعاد الاجتماعية للتفاهة في الإنترنت

4.1. تفكيك المعنى والسطحية المعرفية

يتم استهلاك الأفكار الكبرى (كالحرية أو العدالة) في شكل شعارات مقتضبة على شكل "هاشتاغ"، مما يفرغها من عمقها التاريخي والفلسفي.

4.2. العلاقات الرقمية

العلاقات في منصات التواصل أصبحت تُبنى على "إعجابات" وتعليقات قصيرة، مما يخلق تواصلاً سطحيًا يغيب عنه الحوار الجاد.

4.3. الهوية الرقمية

يقدّم الأفراد ذواتهم عبر محتويات تافهة أحيانًا، بحثًا عن التفاعل، مما يخلق فجوة بين الذات الحقيقية والذات الافتراضية.

5.التفاهة والسلطة

5.1. السلطة الناعمة للشركات

شركات التكنولوجيا العملاقة (Google, Meta, TikTok) تتحكم في ما نراه ونتابعه، وتعيد تشكيل ذائقتنا بما يخدم مصالحها الاقتصادية.

5.2. التفاهة كأداة للهيمنة

وفق منظور غرامشي عن الهيمنة الثقافية، يمكن اعتبار التفاهة أداة لإلهاء الجماهير، وإشغالها بمحتويات سطحية بدل الانخراط في قضايا مصيرية.

6. مقاومة التفاهة: ما العمل؟

6.1. التربية الإعلامية

تعليم الأجيال الجديدة كيفية التمييز بين المحتوى الهادف والفارغ، وفهم آليات الخوارزميات.

6.2. دعم البدائل الثقافية

تشجيع المنصات والمبادرات التي تنتج محتوى معرفيًا وثقافيًا في شكل جذاب، حتى ينافس المحتوى التافه بنفس أدواته.

6.3. سياسات ثقافية وتنظيمية

الدول والمجتمعات المدنية مدعوة لفرض تشريعات وسياسات تحد من هيمنة الشركات الرقمية، وتعيد الاعتبار للمحتوى الجاد.


التفاهة في الإنترنت ليست مجرد سلوك فردي، بل هي انعكاس لبنية اجتماعية وثقافية واقتصادية أوسع، حيث يتحكم اقتصاد السوق في المعاني والقيم. وإذا كانت هذه الظاهرة تعبّر عن تحولات الحداثة السائلة، فإن مواجهتها تتطلب مشروعًا جماعيًا: وعي نقدي، تربية إعلامية، إصلاحات رقمية، وتشجيع للمحتوى الجاد.

وبذلك، فإن دراسة التفاهة في الإنترنت من منظور سوسيولوجي لا تكشف فقط عن أزمة المعنى في زمن الرقمنة، بل تفتح أيضًا أفقًا لفهم عميق لدور الثقافة والمعرفة في إعادة تشكيل مستقبل الإنسان.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق