لماذا نتصرف بشكل مختلف في الأماكن العامة مقارنةً بالمنزل؟ علم الاجتماع يجيب

 


لماذا نتصرف بشكل مختلف في الأماكن العامة مقارنةً بالمنزل؟

في حياتنا اليومية، نلاحظ أننا نتصرف بطريقة في المنزل، وبطريقة أخرى في الشارع، أو في العمل، أو في أي مكان عام. قد يكون الشخص مرحًا وصاخبًا داخل بيته، لكنه يصبح أكثر تحفظًا وجدية عندما يخرج أمام الآخرين. هذا الاختلاف ليس مجرد صدفة، بل هو موضوع درس عميق في علم الاجتماع، حيث حاول علماء الاجتماع والفلاسفة تفسيره بالاعتماد على نظريات متعددة.


1. المجال الخاص مقابل المجال العام

في المنزل، نكون داخل ما يسميه علماء الاجتماع بـ المجال الخاص. هذا الفضاء يمنحنا شعورًا بالأمان، حيث لا نحتاج إلى إظهار "وجه اجتماعي" رسمي، بل نتصرف بعفوية وبدون قيود.
أما في الأماكن العامة، فنحن داخل ما يسمى بـ المجال العام، حيث نكون تحت أنظار الآخرين، وهو ما يجعلنا أكثر حرصًا على صورتنا وسلوكنا.


 2. نظرية التفاعل الرمزي – إرفنغ غوفمان

عالم الاجتماع الكندي إرفنغ غوفمان قدّم تفسيرًا رائعًا لهذا السلوك في كتابه الشهير عرض الذات في الحياة اليومية.
شبّه غوفمان المجتمع بالمسرح، حيث يلعب كل فرد "دورًا" أمام الآخرين:

  • في الأماكن العامة: نحن في واجهة العرض (Front Stage)، حيث نحاول الظهور بمظهر مقبول اجتماعيًا.

  • في المنزل: نحن في الكواليس (Back Stage)، حيث نتصرف بحرية بعيدًا عن أعين الجمهور.

هذا يفسر لماذا يغيّر الإنسان من لغته، حركاته، وحتى طريقة جلوسه بمجرد أن ينتقل من المنزل إلى مكان عام.


 3. المدرسة الوظيفية – إميل دوركايم

وفقًا للوظيفيين مثل إميل دوركايم، فإن السلوك في الأماكن العامة يخضع لـ الضمير الجمعي، أي القواعد والقيم المشتركة التي يفرضها المجتمع لحفظ النظام.
في المنزل، يسود ما يسمى بـ الضمير الفردي حيث نتصرف بحرية أكبر.
إذن، اختلاف السلوك بين الخاص والعام ليس تناقضًا، بل هو استجابة طبيعية لحماية المجتمع من الفوضى وضمان التماسك الاجتماعي.


 4. المدرسة الماركسية – كارل ماركس

من منظور ماركسي، يمكن تفسير اختلاف السلوك بين المجالين بوجود علاقات قوة.

  • في الأماكن العامة (كالعمل)، نخضع لسلطة المديرين والقوانين والأنظمة.

  • في المنزل، نكون أكثر تحررًا لأننا نتحكم في المجال الخاص.

ماركس يرى أن الإنسان في الأماكن العامة قد يضطر إلى إخفاء ذاته الحقيقية بسبب الضغوط الطبقية والاقتصادية.


5. المدرسة الثقافية – بيير بورديو

عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو يضيف بعدًا آخر عبر مفهوم الحقل الاجتماعي ورأس المال الرمزي.
كل مكان عام (جامعة، سوق، شارع) له قواعده غير المكتوبة، ويُطلب من الفرد أن يتصرف وفقها ليُقبل من الآخرين.
في المنزل، هذه الضغوط تختفي، لأننا لا نحتاج إلى إثبات مكانتنا أو هويتنا.


 6. البُعد النفسي والاجتماعي

من الناحية النفسية، في المنزل تتراجع آليات الضبط الاجتماعي، بينما في الأماكن العامة يكون الإنسان تحت تأثير الرقابة الاجتماعية المباشرة (نظرات الآخرين) أو غير المباشرة (الخوف من الانتقاد).
هذا ما يجعل الشخص أكثر التزامًا بالآداب العامة في الشارع، بينما قد يتصرف بارتياح شديد داخل بيته.


نحن نتصرف بشكل مختلف في الأماكن العامة مقارنة بالمنزل لأننا نعيش بين مجالين متكاملين:

  • المجال الخاص: حيث الحرية والعفوية.

  • المجال العام: حيث القوانين الاجتماعية، والأدوار، وصورة الذات أمام الآخرين.

النظريات السوسيولوجية – من غوفمان إلى دوركايم وماركس وبورديو – توضح أن اختلاف السلوك ليس ضعفًا أو ازدواجية، بل هو استجابة طبيعية للتوازن بين الفرد والمجتمع.


 مراجع مقترحة

  1. إرفنغ غوفمان – عرض الذات في الحياة اليومية.

  2. إميل دوركايم – قواعد المنهج في علم الاجتماع.

  3. كارل ماركس – رأس المال.

  4. بيير بورديو – التمييز: نقد اجتماعي للحكم.

  5. أنتوني غيدنز – علم الاجتماع.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق