عنوان هذا المقال به تعديل جزئى لمقال كان قد نشره الفيلسوف العظيم كانط فى عام 1784 فى مجلة شهرية فى برلين، وكان عنوانه «جواب عن سؤال: ما التنوير؟» وأنا هنا أكتب لفظ «الحقيقة» بديلاً عن لفظ «التنوير».والسؤال إذن: لماذا هذا البديل؟
بسبب الفارق بين هموم القرن الثامن عشر وهموم القرن الواحد والعشرين. فى القرن الثامن عشر كانت الهموم متمركزة حول تحرير العقل من كل سلطة ما عدا سلطة العقل. وقد تمثل هذا التحرير عند كانط فى الشعار الذى صكه للتنوير وهو «كن جريئاً فى إعمال عقلك». وكانت الجرأة عنده تعنى إقصاء الحراس المكلفين بإخضاع بنى البشر للسمع والطاعة سواء كان هؤلاء الحراس من المؤسسة الدينية أو من أى مؤسسة من المؤسسات التى كانت تغط فى السُبات الدوجماطيقى، أى فى النوم الذى يسببه المعتقد المطلق. وفى هذا السياق ألَف كانط أربعة كتب: انقد العقل الخالصبو «نقد العقل العملى» و«صراع الملكاتب» «الدين فى حدود العقل وحده». وفى هذا السياق أيضا صدرت مؤلفات لفلاسفة التنوير فى فرنسا. وإثر ذلك حدثت الثورة الفرنسية ثم الثورة الأمريكية.
أما فى القرن الواحد والعشرين فقد شاعت الأصوليات الدينية فى أديان كوكب الأرض، وتميزت بأن كل واحدة منها تزعم أنها تملك الحقيقة المطلقة. وحيث إن الحقيقة المطلقة واحدة فقد نشب صدام دموى بين قيادات هذه الحقائق المطلقة. إلا أن هذا الصدام الدموى لم يقف عند حد هذه القيادات بل تعداه إلى كيانات الدول وهويات الشعوب. وقد قيل عن هذا النوع من الصدام إنه ارهاب. ومن هنا صككت هذه العبارة «الارهاب أعلى مراحل الأصوليات الدينية». فإذا أردت أن تقضى على الارهاب فعليك القضاء على هذه الأصوليات. والسؤال اذن: كيف نقضى عليها؟
إذا كانت الأصولية الدينية تزعم أنها تملك الحقيقة المطلقة فالسؤال اذن: هل فى الامكان امتلاك الحقيقة المطلقة؟ وأجيب بسؤال: هل ثمة حقيقة مطلقة؟ والمفارقة هنا أن هذا السؤال مثار الآن فى الدوائر الثقافية والدينية الغربية وليس مثاراً فى أى من الدوائر العربية والاسلامية بل المثار فيها إدانة التطرف الدينى ويقصد به فى نهاية المطاف الخروج على الاجماع وعلى السمع والطاعة، أى الخروج على السلطة الدينية، ومن هنا تُجهض أى دعوة يقال عنها إنها تجديد للخطاب الدينى أو إنها ثورة دينية أو إنها ثورة فكرية. ومن هنا أيضا يشيع الارهاب ويتحكم ولا يقف عند حد الدول العربية والاسلامية إنما يتعداه إلى الدول الأوروبية والأمريكية والأفروآسيوية.
وإذا كان ذلك كذلك فالسؤال عما إذا كانت ثمة حقيقية مطلقة جدير بأن يكون مُلزما لدول وشعوب كوكب الأرض. وتطور الحضارة يشهد على عجز العقل عن امتلاك الحقيقة المطلقة. فما كان حقيقة بالأمس يصبح لا حقيقة فى الغد. إلا أن هذه الشهادة لم تسلم من الادانة والمطاردة. أمثل لما أقول بما حدث فى الماضى. فى القرن الخامس قبل الميلاد نشر بروتاغوراس كتاباً سماه «الحقيقة» وصلت إلينا منه شذرات. منها شذرة تقول أن «الانسان مقياس الأشياء جميعا»ً بمعنى أن «الأشياء هى بالنسبة إلىَ على ما تبدو لى، وهى بالنسبة إليك على ما تبدو لك وأنت انسان وأنا انسان». ورتب على هذه العبارة عبارة أخرى «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين» فاتهم بالالحاد وحكم عليه بالاعدام وأحرقت كتبه ففر هارباً ومات غرقاً. وفى القرن السادس عشر أعلن كوبرنيكوس نظريته القائلة بدوران الأرض حول الشمس فى كتابه المعنون «عن حركات الأفلاك» فصودر الكتاب من قبل السلطة الدينية. وعندما أيد جليليو النظرية أعلن ديوان الفهرست وهو الديوان المكلف بمراقبة الكتب أن جليليو قد خرج على الدين لقوله بنظرية منافية للكتاب المقدس. وفى القرن التاسع عشر دعت الأصولية المسيحية إلى تجريم تدريس نظرية التطور فى المدارس والجامعات فى أمريكا.
الرعب اذن ملازم لأى نظرية علمية تتوهم السلطة الدينية أنها تهز المعتقد، أى تهز حقيقة مطلقة. وإذا كان ذلك كذلك فنحن اذن فى مأزق وهو على النحو الآتى: إما تطور العلم مع عدم الالتزام بالحقيقة المطلقة، أو الالتزام بالحقيقة المطلقة مع منع العلم من التطور. ومعنى ذلك أن الخروج من المأزق يستلزم التضحية بأى منهما. وقد تمت التضحية بالحقيقة المطلقة، بل بالحقيقة ذاتها. والسؤال اذن كيف حدث ذلك؟
بفضل شعار التنوير ذاته على نحو ما ارتآه كانط: «كن جريئاً فى إعمال عقلك». الجرأة تعنى عدم التهور، وذلك بعدم الخروج على حدود العقل. وحدود العقل محكومة بعدم قنص المطلق، ولكنها محكومة أيضاً بمحاولة قنصه دون قنصه. وإذا كان المطلق مرتبطاً بالحقيقة فالمطلوب اذن فك الارتباط بين المطلق والحقيقة. والبديل ماذا يكون؟ ارتباط العقل بالمعرفة وليس بالحقيقة. وفى هذا السياق أسست علماً جديداً اسمه «ثلاثية العلم»، أى الفلسفة والفيزياء والسياسة، الفلسفة فيه هى الوحدة الكلية للمعرفة وتتأسس على الفيزياء والسياسة. السياسة تُرد إليها العلوم الانسانية، والفيزياء ترد إليها العلوم الطبيعية. وهذه الثلاثية قابلة للتطور بعيداً عن حراس الحقيقة المطلقة الذين لا يعنيهم سوى المحافظة عليها، والمحافظة هنا ممكنة بلا رعب لأن العلم الجديد لا يعنيه سوى المعرفة فى تطورها من أجل تغيير الواقع والتقدم بلا حدود. وفى هذا السياق تدخل المعرفة كعامل رابع لعوامل الانتاج الثلاثة: المال والأرض والعمل. وكانت مقدمات هذه الثلاثية فى المؤتمر الفلسفى الدولى الثالث الذى عقدته فى القاهرة فى عام 1980.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق