خلال عصر النهضة أدت العديد من العوامل إلى تطور التفكير في الطبيعة الإنسانية، بداية بالاكتشافات الكبرى، خصوصا اكتشاف العالم الجديد، حيث وجد المستكشفون أنفسهم أمام شعوب غير معروفة و(متوحشة)، مما دفع رجال الدين المسيحيين للتساؤل إذا ما كانت هاته الكائنات البدائية (المتوحشة)، وهي من خلق الله، تتوفر على روح أم لا؟ ... كما لعب اكتشاف تقاليد ومعتقدات شعوب أخرى دورا في التساؤل حول الطبيعة البشرية: هل الإنسان هو نفسه في كل مكان؟ هل يملك كل البشر نفس العقل ونفس الرغبات؟
كما أن تقدم العلوم – الفيزياء، علم النباتات، الطب، مقارنة تشريح الإنسان بباقي الحيوانات – أدى إلى تطور المعارف المتعلقة بالجسد البشري، مما أدى إلى ظهور نزعة نحو التفسير العلمي للقدرة البشرية على التفكير بعيدًا عن التصورات الدينية.
لذلك كان هدف ديكارت هو التوفيق بين المعارف العلمية لعصره و التصور المسيحي للروح الذي يرى فيها كيانا مستقلا عن الجسد ومصدرا للفكر، وبذلك فقد اقترح موقفه المعروف ب"الثنائية"، حيث يرى أن الإنسان كباقي الحيوانات يملك جسدًا، وهو عبارة عن آلة متطورة (الجسد وليس الإنسان)، ولكنه ليس أكثر من آلة تشتغل وفق قوانين الميكانيكا وتتوفر على خيوط توصيل (الأعصاب والعروق) ومضخة (القلب) وغيرها من المكونات، فالجسد يشبه ساعة تعمل وفق نظام دقيق. فالحيوانات، التي ليست سوى جسد بدون روح مجرد أجساد آلية، لا تحس بشيء، ولا تفكر، مجرد روبوتات. يقول ديكارت أن كل جسد حي هو أشبه ما يكون بساعة أو آلة هيدروليكية.
وما يميز الإنسان إذن هو امتلاكه للروح أو res cogitans (الجوهر المفكر) كما يسميها ديكارت. هذه الروح اللامادية هي التي تخول للإنسان القدرة على التفكير... وهكذا فديكارت يقول بثنائية الطبيعة البشرية، طبيعة روحانية مكونة من العقل، الروح، الجوهر المفكر وطبيعة مادية أساسها المادة، الجوهر الممتد res extensa. ونقطة التواصل بين الروح والجسد توجد في الغدة الصنوبرية وهي جزء من الدماغ نسميها اليوم الإبيفيز، ومن هذه النقطة يمكن للروح أن تؤثر على الجسد كما يمكن للجسد أن يؤثر على الروح، فالرغبات كالرغبة في الأكل مثلا هي نتيجة تأثير الجسد على الروح.
لكن مع ذلك تبقى نظرية ديكارت ناقصة نوعًا حيث تطرح الكثير من الإشكاليات وأهمها كيف لكيان لامادي كالروح أن يؤثر على كيان مادي؟ وقد سبق وطرحت الأميرة إليزابيت البوهيمية هذه الإشكالية على ديكارت خلال مراسلاتهما، وقد اضطر إلى الاعتراف بأن نظريته تطرح بعض الصعوبات التي لم يستطع تجاوزها، وبعد عدة قرون لا زالت إشكالية العلاقة بين الروح والجسد تثير الكثير من الجدل في الدوائر الفلسفية.
المصدر : المعرفة والفلسفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق