التأثير الخفي لمواقع التواصل الاجتماعي على السلوك الإنساني: مقاربة سوسيولوجية نظرية
أحدثت شبكات التواصل الاجتماعي تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات المعاصرة. لم تعد هذه المنصات مجرد أدوات تقنية للتواصل، بل أصبحت فضاءات اجتماعية تنتج أنماطًا جديدة من التفاعل الرمزي، والهوية، والقيم. من هنا تبرز أهمية المقاربة السوسيولوجية، التي تنظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها امتدادًا للتحولات التاريخية في أنماط الاتصال، وكمجال خصب لاختبار النظريات الكلاسيكية والمعاصرة في علم الاجتماع.
أولًا: الإطار النظري لعلم الاجتماع والفضاء الرقمي
1. المنظور البنيوي الوظيفي (Émile Durkheim – Talcott Parsons)
يرى الوظيفيون أن كل مؤسسة اجتماعية تؤدي دورًا في استقرار المجتمع. ووفقًا لهذا المنظور، يمكن اعتبار مواقع التواصل شكلًا جديدًا من المؤسسات الرمزية، حيث تقوم بوظائف مثل: تعزيز التضامن الافتراضي، توسيع شبكات العلاقات، ونشر القيم. غير أنها قد تنتج أيضًا "اختلالات وظيفية" مثل تفكك الروابط التقليدية أو انتشار القلق الاجتماعي.
2. المنظور الصراعي (Karl Marx – Pierre Bourdieu)
يُبرز هذا المنظور البُعد الاقتصادي والسياسي للتواصل الرقمي. فشركات التكنولوجيا الكبرى (Meta, X, TikTok) لا تُنتج فقط فضاءات للتفاعل، بل تسيطر على تدفق المعلومات وتعيد إنتاج علاقات الهيمنة. كما يُسهم مفهوم بورديو عن "رأس المال الرمزي" في تفسير كيفية تراكم المكانة والاعتراف عبر "الإعجابات" والمتابعين، ما يؤدي إلى أشكال جديدة من اللامساواة.
3. التفاعل الرمزي (George Herbert Mead – Herbert Blumer)
وفقًا لهذا المنظور، تُبنى المعاني عبر التفاعل الاجتماعي. وفي السياق الرقمي، يشكل كل تعليق أو إعجاب رمزًا ذا دلالة اجتماعية. الهوية الافتراضية للفرد ليست انعكاسًا بسيطًا للذات الواقعية، بل هي نتاج مستمر لتفاعلات مع الآخرين، تُعيد صياغة صورة الفرد عن نفسه.
4. نظرية عرض الذات (Erving Goffman)
غوفمان يرى أن الحياة الاجتماعية تشبه المسرح، حيث يؤدي الأفراد أدوارًا أمام الجمهور. وعلى شبكات التواصل، يتحول "الملف الشخصي" إلى خشبة مسرح، تُعرض من خلالها صور مختارة وحالات مدروسة. هذا يعكس ليس فقط رغبة في التواصل، بل في إدارة الانطباع الاجتماعي بشكل استراتيجي.
ثانيًا: الأبعاد السوسيولوجية للسلوك الرقمي
-
إعادة تشكيل الهوية: الهوية الرقمية لم تعد امتدادًا للهوية الواقعية، بل أصبحت كيانًا قائمًا بذاته، يتغير وفقًا للتفاعلات المستمرة عبر المنصات.
-
المقارنة الاجتماعية: استنادًا إلى نظرية Festinger حول المقارنة الاجتماعية، فإن الأفراد يميلون إلى تقييم أنفسهم من خلال مقارنة صورهم بحياة الآخرين "المثالية"، ما يؤدي إلى مشاعر بالنقص أو القلق.
-
الرأسمالية العاطفية: تسيطر المنصات على المشاعر الجماعية عبر الخوارزميات، ما ينتج موجات من الغضب، التعاطف، أو التضامن، في ظاهرة تشبه ما وصفه دوركهايم بـ"الوجدان الجمعي".
-
المجتمع الشبكي (Manuel Castells): وفقًا لكاستلز، نحن نعيش في "مجتمع الشبكة"، حيث تُصبح السلطة والمعنى موزعة عبر شبكات مترابطة، ما يجعل الفضاء الرقمي مركزًا لإعادة تشكيل الاقتصاد والسياسة والثقافة.
ثالثًا: التحديات النظرية والمنهجية
-
إشكالية الهوية: كيف يمكن التمييز بين "الذات الواقعية" و"الذات الرقمية" في ظل تداخل الحدود؟
-
إشكالية السلطة: إلى أي مدى يمكن اعتبار مواقع التواصل أدوات للتحرر أو وسائط لإعادة إنتاج الهيمنة؟
-
إشكالية الزمن الاجتماعي: كيف غيّر الفضاء الرقمي من تصورنا للزمن، حيث أصبح التفاعل لحظيًا وفوريًا؟
يظهر من خلال المقاربات النظرية أن التأثير الخفي لمواقع التواصل الاجتماعي يتجاوز البعد التقني إلى بُعد سوسيولوجي عميق، يعيد تشكيل الهويات، العلاقات، والقيم. فبينما يرى الوظيفيون فيها مؤسسة جديدة للتضامن، يعتبرها الصراعيون مجالًا لإعادة إنتاج اللامساواة، في حين يبرز التفاعليون أنها فضاء لصياغة المعاني اليومية.
إن هذه التعددية النظرية تكشف أن دراسة مواقع التواصل لا يمكن أن تُختزل في منظور واحد، بل هي ظاهرة متعددة الأبعاد، تستدعي تضافر المدارس السوسيولوجية لفهمها في سياق المجتمع المعاصر.
أترك لنا رأيك حول الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق