4‏/3‏/2015

قراءة في كتاب " نهاية العالم كما نعرفه " ايمانيويل فاليرشتاين || The End of the World As We Know It, Immanuel Wallerstein


ايمانويل فاليرشتاين ، مفكر خصب وغزير الإنتاج، مثير وحافز لفكر الآخر، يحاول جاهدا كشف الغمامة عن العيون التي فرضها التقليد أو اصطنعتها السلطة، سلطة السياسة أو الإعلام أو التراث في الغرب باسم تفوق عقل الغرب – المركز- وباسم أنه العالم ومن دونه البقية مجرد أطراف. تلك الغمامة التي أخفت عن العيون قرونا ؛ تناقضات الواقع، وحقائق الحياة الإنسانية  العامة انحياز للغرب  المصلحة والعرق، ويدعو فاليرشتاين إلى أن يتخلى الإنسان بعامة ، في الغرب وفي الشرق، عن عادة الاطراد العشوائي انسياقا وراء تقليد فكري مضى زمانه وغن اعتاد الغرب وصفه بالحداثة والتحديث، لذا نراه في كتاباته  يدعو إلى التجديد.
وسنستعرض في هذه المقال إلى كتابه " نهاية العالم كما نعرفه، الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1999 ، ويمثل هذا المؤلَّف سجال في الحوار  الدائر في الغرب بخاصة وعلى الصعيد العالمي عامة، بشان حقيقة واقع التغير الاجتماعي في العالم ألان واحتمالات المستقبل، وحقيقة النظام العالمي المرتكز على الغرب على المدى القرون الخمسة الماضية وانعكاسات ذلك على الفكر والعلم والسياسة والاقتصاد.
ويدخل فاليرشتاين على مدى صفحات كتابه في حوار مع تيارات الفكر العالمي ملتزما منهجا علميا عقلانيا نقديا، بل إنه يناقش حتى البديهيات الأولى من معاني  العلم والعقلانية والنقد، وهي المعاني التي سادت على مدى القرون الخمسة ومدى ما فيها من صواب أو زيف وخداع، لذا يجد القارئ نفسه في حوار معه، وفي مراجعة، بل ويبحث معه الدعوة إلى إعادة تنظيم البنية الذهنية في تعاملنا مع النفس- المجتمع- التاريخ –الحاضر، العالم والرؤية إلى المستقبل، ودور وفعالية الإنسان مع المجتمع.
ويمثل هذا الكتاب خطابا إلى العالم على لسان باحث فريد من نوعه ولعله ألاحق بهذا الدور فهو باحث مشهود له بالمعرفة الواسعة ويتمتع بقدرات نظرية هائل،  ويوثق فاليرشتاين في خطابه هذه التحولات العميقة في عالمنا المعاصر. ويكشف عن تحولات الفكر في صورة تيارات ومذاهب هي صدى لتحولات الواقعـ وتعبير عن فراغ أو شواش فكري هو سمة مراحل التحول والانتقال.ويوضح لنا معالم وأسس نهجه المتميز في فهم تحولات الواقع والفكر معا ودلالاتها واحتمالاتها المستقبلية غير المنظورة  وغير المحددة. ويعتمد في هذا كله على منجزات علمية مستحدثة تمثل ثورة علمية.
وأول هذه المستحدثات ما يعرف في مجال العلوم الطبيعية باسم علوم ودراسات التعقد، ما يعرف في مجال الإنسانيات باسم الدراسات أو العلوم الثقافية. ويسعى الاثنان نحو هف واحد وإن اختلف المنطلق. والهدف هو الهجوم على النموذج المهيمن للعلم الطبيعي المرتكز على فيزياء نيوتن وفلسفة كل من ديكارت وبيكون. وهذا النموذج الذي عاش الفكر الغربي، ومن ثم العالمي، أسيرا له وصاغ إطار الواقع والعالم الذي نعيشه وندركه من خلاله، وهذا هو العالم الذي يحدثنا فاليرشتاين عن نهايته.
نيوتن وديكارت
عاش الفكر العالمي، في العلوم الطبيعية وفي الإنسانيات، أسيرا لمفهوم الحتمية النيوتونية. وتزعم فيزياء نيوتن أن الظواهر الطبيعية تمضي في مسار خطي أحادي قابل للارتداد على عكس ما يقضي به مفهوم سهم الزمان، الزمان المنطلق غير القابل للارتداد الذي تقول به دراسات التعقد.  ويقر نيوتن أن بالإمكان التنبؤ بالمستقبل عن يقين، والكشف عن مسار الماضي عن يقين إذا عرفنا القوانين الكلية المتحكمة في الظواهر، وإننا نعيش في كون مغلق محتوم. وميز ديكارت بين الإنسان والطبيعة، وما دونه من الموجودات حسب النظرة التقليدية الموروثة. ووصف الحيوانات بأنها آلات اوتوماتا. ورأى الزمن خارج سياق الظواهر بما يسمح بالارتداد.
وأفضت فيزياء نيوتن وفلسفة ديكارت، أو الفكر التنويري الغربي، أفضى إلى الفصل بين الإنسان والطبيعة، أو إلى التمايز المنهجي والموضوعي والتاريخي بين الفلسفة والإنسانيات من ناحية، والطبيعيات من ناحية أخرى.فجعلوا منهما عالمان منفصلان  في استقلال تام، مع خضوع الأول للثاني. ويؤكد فكر التنوير أن بإمكان الإنسان قهر الطبيعة والتحكم فيها إذا اكتشفت القوانين الكلية للظواهر الطبيعية. أن بإمكاننا صياغة جميع القوانين الحاكمة لظاهر الطبيعة في معادلة بسيطة وهذا هو هدف العلم. وليس أدل على هذا من أن اينشتاين كان يبحث من أجل نظرية المجال الموحد التي تمثل معادلة بسيطة تفسر كل شيء في الكون. ومن هنا على سبيل المخالفة والنقض، جاء اسم التعقد وصفا للدراسات الجديد. ويمثل فكر ديكارت ونيوتن أو التنوير بعامة أساس فكر الثقافيين التي صيغت الدراسات الأكاديمية في الجامعات على  هديها، وجرى التمييز بين الأقسام الدراسية على أساس هذا الفصل.
وتنفي دراسات التعقد والدراسات الثقافية هذا كله سعيا نحو ثقافة واحدة، تعلو على الثنائية، حيث الإنسان والطبيعة  ومن ثم نكون أكثر واقعية، ونرى الإنسان في ضوء الطبيعة، وليس الطبيعة في ضوء انحياز إنساني، وأول شيء تؤكده دراسات التعقد أنها ترفض الحتمية وأن العالم ليس مغلقا والقوانين ليست كلية صادقة في كل زمان ومكان وإنما العالم مفتوح لإمكانات واحتمالات. معنى هذا انه مفتوح لإبداعات جديدة، وأن القول بالحتمية أو أن المستقبل محدد مسبقا مصادرة للإبداع... إبداع الطبيعة وإبداع الإنسان. ويقسم فاليرشتاين كتابه إلى قسمين: قسم من عالم الرأسمالية أي النظام العالمي الرأسمالي، وقسم عن عالم المعرفة. ويحدد أن النظام العالمي الرأسمالي منظومة تاريخية عمرها خمسمائة عام. ويوصف النظام بأنه رأسمالي لأن خاصيته المتميزة عن سوابقه : التراكم اللانهائي لرأس المال، واستخراج أعباء الإنتاج أي تحميلها على الخارج ، وتعني كلمة عالم هتنا في القسم الأول ، العالم الذي صاغ إطار واقعنا، وأدركنا ذا الواقع من خلاله. وتعني في الفصل الثاني؛ العالم الذي عرفناه، أي عالم المعرف المكتسبة في إطاره، وفهمناه من خلال وهذا الإطار، وهذان العالمان هما اللذان يعيشان أزمة النهاية.
تحولات هيكلية جذرية
يتناول القسم الأول من كتاب" نهاية العالم كما نعرفه" تقييما للأحداث المعاصرة المهمة أي التحولات الهيكلية. ويتناول القسم الثاني دراسة التحولات في الفكر التي وقعت نتيجة أحداث القسم الأول.  ومن الأحداث المهمة التي استعرضها فاليرشتاين في القسم الأول من كتابه، على مدى العقود الأربعة الأخيرة في القرن العشرين، تلك المتمثلة في انهيار دول اليسار التقليدي بالمعنى الواسع لكلمة يسار:
الماركسية بأطيافها، والاشتراكية الديمقراطية  وغيرها، ويعرض أيضا سقوط الليبرالية في الغرب، ويوضح كذلك جفاف نبع حركات التحرر الوطني، وفقدانها خصوبتها ودورها، بل يرى سقوط هذه الحركات وفشلها في تحقيق ما وعدت بع شعوبها، وهكذا فقدت هذه النظم التي تولت السلطة باسمها بعد الاستقلال أساس شرعيتها. كما يطرح أيضا في هذا الفصل، الأخطار التي تهدد البيئة والحوارات المحلية والعالمية  بشأن الهوية القومية، وتهميش السكان المهاجرين المقيمين في الغرب، ويضع خلال مناقشته هذه الأحداث والاتجاهات في سياق التغييرات، التي طرأت وتطرأ على النظام العالمي الحديث في مجموعة، ويحدد ما تطرحه علينا من خيارات تاريخية.
ويناقش الفصل الثاني من المؤلَّف؛ القضايا الراهنة في عالم المعرفة ، ذلك سقوط الإيمان بالعقلانية، أي سقوط اليقينيات بالمعنى الذي صاغته فلسفات التنوير. وكذا تناثر وتشظي الأنشطة المعرفية، ونبذ المحورية الغربية والتساؤل بشأن تقسيم المعرفة إلى طبيعيات وإنسانيات، وعلاقة البحث عن الحق والخير والجمال باعتبار ذلك مجالا خاصا بالفلسفة، وأثر ذلك فيما حدث من تقسيم زائف للمعرفة أدى إلى  فصل الإنسان عن الطبيعة. لقد كان هذا التقسيم على الأصح امتدادا وتكريسا لنظرة تراثية قديمة تفصل وتمايز الإنسان عن الوجود والبيئة من حوله. ويكشف لنا فاليرشتاين كيف انبثقت هذه التساؤلات في سياق تحولات اجتماعية أكبر، ولماذا أصبحت الطرق التقليدية في تأطير  هذا الجدل على اختلاف أنواعه عقبات حالت دون حسم تلك الشكوك.

ويقول فاليرشتاين : « العالم وقد تغيير أصبحنا بحاجة إلى تقييم لمعارفنا الاجتماعية الجمعية، التي تمثل حصاد العلم الاجتماعي. واعتقد أن النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، سيكون حقبة أصعب وأبعد عن الاستقرار، لكنها أيضا ستكون أكثر انفتاحا عن كل شيء عرفناه في القرن العشرين، واني اعتمد في هذا على ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولى:: أن المنظومات التاريخية، شان جميع المنظومات، لها حياة موقوتة متغيرة، البداية ثم تطور لعمر زمني، وأخيرا تتحرك بعيدا عن حالات الاتزان وتصل إلى نقطة التشعب والاندثار.

والمقدمة الثانية: أن ثمة أمرين صادقين عند بلوغ نقطة التشعب، أن المدخلات الصغيرة تفضي إلى أحداث مخرجات كبيرة، إذ إن أي حدث صغير يؤدي إلى حدث كبير، ويصور بعض أصحاب دراسات التعقد هذا مجازا بقولهم " إن رفَّةَ جناحي فراشة في الصين، يعطي إعصارا في الأطلسي" .. هذا عكس الوضع في حالي اتزان المنظومة مرحليا، حيث المدخلات الصغيرة لها مخرجات صغيرة معادلة لها. إن ناتج هذه التشعبات غير محدد، وغير معروف مسبقا، ويتعذر التنبؤ، وإنما الاحتمالات كثيرة، وفرض الإبداع البشري كثيرة أيضا.


والمقدمة الثالثة: أن النظام العالمي الحديث باعتباره منظومة تاريخية لها بداية وتطور ونهاية وقد دخل أزمة النهاية، وليس من المحتمل أن يمتد وجود إلى أكثر من خمسين عاما قادمة. وحيث يتعذر علينا التنبؤ، فإننا لا نعرف مسبقا ما إذا كانت المنظومة أو المنظومات المحتملة، والناتجة والتي ستكون أفضل أم أسوأ، بيد إننا  نعرف عن يقين أن فترة الانتقال ستكون فترة مشكلات عصبية، نظرا لأن رهانات الانتقال صعبة ، والناتج مشكوك في أو غير يقيني، علاوة على احتمالات أن لأي مدخلات صغيرة سوف تؤدي إلى مخرجات كبيرة غير محسوبة والمعروفة»




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق