لماذا ينحرف بعض الأفراد عن القوانين حسب علم الاجتماع؟
يُعدّ الانحراف عن القوانين أحد أهم المواضيع في علم الاجتماع الجنائي والسياسي على حد سواء. فالظاهرة الإجرامية ليست مجرد فعل فردي معزول، بل هي نتاج تفاعل معقد بين العوامل الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والنفسية. والسؤال المركزي الذي يحاول علماء الاجتماع الإجابة عنه هو: لماذا يلتزم بعض الأفراد بالقواعد والقوانين بينما ينحرف آخرون عنها؟
في هذا المقال، سنعرض أهم التفسيرات التي قدّمها علم الاجتماع حول الانحراف، بدءًا من النظريات الكلاسيكية وصولًا إلى المدارس الحديثة.
أولًا: مفهوم الانحراف عن القوانين
الانحراف هو كل سلوك يخالف القواعد الاجتماعية أو القانونية المتفق عليها داخل المجتمع. وقد يكون هذا الانحراف بسيطًا مثل مخالفة القواعد المرورية، أو خطيرًا مثل الجرائم الكبرى.
يؤكد علماء الاجتماع أن الانحراف ليس مجرد خرق للقانون، بل هو انعكاس للبنية الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها الفرد.
ثانيًا: العوامل الاجتماعية وراء الانحراف
-
العوامل الاقتصادية: الفقر والبطالة قد يدفعان بعض الأفراد إلى الجريمة كوسيلة للبقاء.
-
العوامل الأسرية: ضعف الروابط الأسرية أو التفكك الأسري يزيد من احتمالية السلوك المنحرف.
-
العوامل الثقافية: قيم بعض الجماعات الفرعية قد تبرر السلوك المخالف للقانون.
-
العوامل التعليمية: غياب التوجيه المدرسي وضعف التربية قد يفتح الباب أمام الانحراف.
ثالثًا: النظريات المفسّرة للانحراف
1. نظرية الضغط الاجتماعي (روبرت ميرتون)
ترى أن الانحراف يحدث عندما يفشل الأفراد في تحقيق أهداف المجتمع المشروعة بوسائل قانونية، فيلجؤون إلى وسائل غير مشروعة.
2. نظرية التعلم الاجتماعي (إدوين سذرلاند)
الانحراف ليس فطريًا، بل يُكتسب عبر التفاعل مع جماعات منحرفة تنقل قيمها وأساليبها إلى الفرد.
3. نظرية الوصم الاجتماعي (هوارد بيكر)
الفرد يصبح "منحرفًا" عندما يقوم المجتمع بوَسمه وإلصاق صفة الانحراف به، مما يدفعه أحيانًا لتبني الدور المنحرف بشكل كامل.
4. نظرية الصراع الاجتماعي (كارل ماركس وتطبيقاتها)
القوانين غالبًا ما تخدم مصالح الطبقات المهيمنة، ومن ثم فإن مخالفتها قد تكون رد فعل على الظلم الاجتماعي واللامساواة.
رابعاً : الإطار النظري لعلم اجتماع الجريمة
1. نظرية دوركايم – الجريمة كحقيقة اجتماعية
يرى إميل دوركايم أن الجريمة ليست مجرد خلل، بل هي ظاهرة طبيعية في كل مجتمع. فهي تعكس تنوع القيم والمعايير داخل المجتمع. والجريمة –بحسب دوركايم– قد تكون أحيانًا وظيفية لأنها تدفع المجتمع إلى إعادة صياغة قواعده الأخلاقية والقانونية.
2. نظرية ميرتون – سوسيولوجيا الانحراف
طرح روبرت ميرتون مفهوم الأنوميا (Anomie) أي اختلال القيم والمعايير. فالأفراد يسعون لتحقيق أهداف مجتمعية (مثل النجاح المادي)، لكن عندما تعجز الوسائل المشروعة (التعليم، العمل) عن تلبية هذه الطموحات، يلجأ البعض إلى وسائل غير مشروعة، فتظهر الجريمة.
3. مدرسة شيكاغو – البيئة الحضرية والجريمة
ركزت مدرسة شيكاغو (القرن 20) على العلاقة بين المكان والجريمة. فالمناطق الحضرية الفقيرة والمتدهورة غالبًا ما تشهد معدلات جريمة مرتفعة بسبب التفكك الاجتماعي، غياب الروابط، وانتشار ثقافة فرعية منحرفة.
4. نظرية الصراع – الجريمة كنتاج للهيمنة الطبقية
بحسب كارل ماركس والاتجاهات الماركسية، تُفهم الجريمة كنتيجة مباشرة لـ الصراع الطبقي. فالقوانين تُسن غالبًا لحماية مصالح الطبقة المسيطرة، بينما يُجرَّم الفقراء والمنحرفون، رغم أن تجاوزات النخب كثيرًا ما تمر دون عقاب.
5. النظرية التفاعلية – وصمة العار والانحراف
يركز هوارد بيكر على مفهوم الوصم الاجتماعي. فالانحراف ليس فعلًا في ذاته، بل هو نتيجة لتصنيف المجتمع لسلوك معيّن باعتباره منحرفًا. وعندما يُوصم الفرد بالانحراف، فإنه قد يتبنى هوية إجرامية بشكل أعمق.
خامساً: لماذا لا ينحرف الجميع؟
رغم الظروف الصعبة التي قد يعيشها كثير من الأفراد، إلا أن بعضهم يبقى ملتزمًا بالقانون. وهنا تأتي أهمية:
-
الضمير الجمعي (إميل دوركايم) الذي يحدد ما هو مقبول ومرفوض.
-
الرقابة الاجتماعية من الأسرة والمدرسة والدولة.
-
القيم الدينية والأخلاقية التي تعزز الضبط الداخلي للفرد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق